الحمد لله.
أولا :
روى الترمذي (2481) وحسنه ، وأحمد (15631) ، والحاكم (7372) عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا )
وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي .
وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي"، وكذا حسنه محققو مسند الإمام أحمد .
ومعنى الحديث : أن من ترك لبس الثياب الحسنة النفيسة غالية الثمن ، وهو
يقدر على ذلك ؛ تواضعا لله ، دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق ،
وخيره من حلل الإيمان يلبس من أيها شاء ، جزاء له على تواضعه لله ، وزهده
في الدنيا ، وبعده عن الخيلاء والتكبر والإسراف .
قال الترمذي رحمه الله عقب روايته :
" وَمَعْنَى قَوْلِهِ : (حُلَلِ الإِيمَانِ): يَعْنِي : مَا يُعْطَى أَهْلُ الإِيمَانِ مِنْ حُلَلِ الجَنَّةِ " انتهى .
وقال المناوي رحمه الله :
"
(من ترك اللبَاس) أَي : لبس الثِّيَاب الْحَسَنَة المرتفعة الْقيمَة
(تواضعا لله) أَي : لَا ليقال : إنه متواضع أَوْ زاهد وَنَحْوه ، والناقد
بَصِير (وَهُوَ يقدر عَلَيْهِ : دَعَاهُ الله يَوْم الْقِيَامَة على رؤوس
الْخَلَائق) ، أَي : يشهره بَين النَّاس ويناديه (حَتَّى يخيره من أَي حلل
الايمان شَاءَ يلبسهَا) " .
انتهى من "التيسير" (2/ 409) .
وقال ابن علان رحمه الله :
"
(من ترك اللباس) أي أعرض عنه (تواضعاً) وتركاً لزهرة الحياة الدنيا (وهو
يقدر عليه) أما التارك للعجز فلا . نعم : إن عزم أنه لو كان قادراً عليه
لأعرض عنه تواضعاً ، أثيب على نيته (دعاه الله يوم القيامة على رؤوس
الخلائق) زيادة في تشريفه (حتى يخيره من أي حلل الإيمان يشاء) ، و"حتى"
غاية لمقدر: أي وينشر تشريفه ثمة (أي : هناك) بأنواع الشرف ، إلى أن يخيره
بين حلل أهل الإيمان المتفاوتة المقام، فيختار الأعلى ، وقوله : (يلبسها)
جملة مستأنفة لبيان القصد من التخيير فيها " انتهى من "دليل الفالحين" (5/
284) .
فالمقصود بترك اللباس : ترك ارتداء الثياب الغالية الثمن النفيسة ، التي لا يقدر على شرائها إلا الأغنياء .
وضابط
هذا : العرف ، فكل ما كان من الثياب في عرف الناس وفي أسواقهم فاخرا مرتفع
القيمة ، لا يقدر على شرائه إلا الأغنياء : فهو من ذلك .
وقد يختلف هذا
من مجتمع إلى مجتمع ، ومن بلد إلى بلد ، فقد يكون الثوب نفيسا في بلد لا
يقدر عليه أوساط الناس ، ويكون الثوب نفسه في بلد آخر في متناول الجميع .
ثانيا :
هذا
لا يعني أن لبس الثياب الحسنة مذموم ، وأن الرجل كلما كان ثوبه رثا ، كان
أكمل إيمانا ، وأعظم أجرا ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس من
أنواع الثياب ، ويتجمل للوفود . روى مسلم (91) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ
كِبْرٍ) قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ
حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ
الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ) .
وقال صلى
الله عليه وسلم : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ
عَلَى عَبْدِهِ) رواه الترمذي (2819) وحسنه ، وصححه الألباني في "صحيح
الترمذي" .
قال القاري رحمه الله :
" قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي
إِذَا آتَى اللَّهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ
الدُّنْيَا فَلْيُظْهِرْهَا مِنْ نَفْسِهِ، بِأَنْ يَلْبَسَ لِبَاسًا
يَلِيقُ بِحَالِهِ، لِإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِيَقْصِدَهُ
الْمُحْتَاجُونَ لِطَلَبِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ، وَكَذَلِكَ
الْعُلَمَاءُ : يُظْهِرُوا عِلْمَهُمْ لِيَسْتَفِيدَ النَّاسُ مِنْهُمُ
اهـ.
فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ قد حَثَّ عَلَى الْبَذَاذَةِ؟ قُلْتُ:
إِنَّمَا حَثَّ عَلَيْهَا ، لِئَلَّا يَعْدِلَ عَنْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ،
وَلَا يَتَكَلَّفُ لِلثِّيَابِ الْمُتَكَلِّفَةِ ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ
فِي عَادَةِ النَّاسِ، حَتَّى فِي الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ،
فَأَمَّا مَنِ اتَّخَذَ ذَلِكَ دَيْدَنًا وَعَادَةً ، مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَى الْجَدِيدِ وَالنَّظَافَةِ، فَلَا ; لِأَنَّهُ خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ "
.
انتهى من "مرقاة المفاتيح" (7/ 2783) .
وعلى هذا ؛ فالمسلم يلبس الثياب الحسنة أو المتواضعة ، ويكون له نية
حسنة في الحالتين ، فيثاب على ذلك ، ولكن الثياب الحسنة لها أحوال وأوقات
تكون أنسب وأرغب فيها ، وللثياب المتواضعة أحوال وأوقات تكون أنسب وأرغب
فيها ، والذي ينبغي لمسلم أن يراعي هذا ، فيفعل كل فعل في الوقت والحال
المناسب له .
ولذلك قال العلماء :
إذا كان الرجل في بيئة متوسطة :
فالأكمل في حقه لبس الثياب المتواضعة ، وترك لبس الثياب الرفيعة ، وإذا كان
في بيئة ميسورة الحال : فالأكمل في حقه لبس الثياب الحسنة الرفيعة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح الحديث الوارد في السؤال :
"
إذا كان الإنسان بين أناس متوسطي الحال لا يستطيعون اللباس الرفيع ،
فتواضع ، وصار يلبس مثلهم ، لئلا تنكسر قلوبهم ، ولئلا يفخر عليهم ، فإنه
ينال هذا الأجر العظيم .
أما إذا كان بين أناس قد أنعم الله عليهم ،
ويلبسون الثياب الرفيعة ، لكنها غير محرمة ، فإن الأفضل أن يلبس مثلهم ؛
لأن الله تعالى جميل يحب الجمال، ولاشك أن الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي
الحال يلبسون الثياب الجميلة ، ولبس دونهم ، فإن هذا يعد لباس شهرة .
فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال :
فإذا كان ترك رفيع الثياب تواضعا لله ، ومواساة لمن كان حوله من الناس : فإن له هذا الأجر العظيم .
أما إذا كان بين أناس قد أغناهم الله ، ويلبسون الثياب الرفيعة : فإنه يلبس مثلهم " .
انتهى من "شرح رياض الصالحين" (4/ 317) .
والمقصود: أن الحديث يدل على الزهد والتواضع وعدم الإسراف ، ولكن لا يدل
على ترك اللباس الحسن بالكلية ، واختيار الثياب الرثة دائما .
وانظر للاستزادة جواب السؤال رقم : (97019) .
والله تعالى أعلم .