"... إن العالم اليوم في حاجة إلى دعاة صالحين ومصلحين، يقظين ومستيقظين، منذرين ومبشرين، شعارهم بعد الإيمان بالله ورسوله (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)... "
في معترك الحياة والناس لاهية قلوبهم.. في الأفنية يلعبون أو في الأسواق يبيعون.. أومن السهر مجهدين فهم نائمون.. ينادى المنادى كل جمعة للصلاة فيأتيها الكثيرون متأخرين.. وتستمر الدائرة بسلبياتها كل جمعة لأن الخطيب لا يجذب الناس..
هل قلوب الناس ليست مهيأة للتلقي فطبع عليها من الران والأدران؟ أم أنه بالفعل هناك أزمة في ثقافة الداعية؟
في مدن حضارية قطنت بها سنين كالرحاب في القاهرة والتجمعات بالقاهرة الجديدة يختلف مستوى الخطباء، فيرقى مستواهم مع رقي المكان وعندما تبحث عن الأسباب تجد الدعم للداعية مالياً وأدبياً….
فينشغل بالعلم وقد وفرت له أجهزة تلك المدن المكتبات الزاخرة وأجهزة الحاسب فضلاً عن الاحترام والتقدير الواجب للعلماء في كل زمان ومكان، ولو بحثت عن جهة كل خطيب في هذه المدن لوجدته إما من القرى المصرية أو من الصعيد البعيد.. إذن.. لماذا هذا الضعف في خطباء المساجد بالقرى؟
وقد عرفنا بما أسلفناه من الرعاية والاهتمام بالداعية في المكان الجديد إذ أنه كان يهدر الوقت للبحث عن حياة كريمة لو استمر كأقرانه في القرى وعشوائيات القاهرة.
مهمة الخطيب حالياً أصبحت معقدة….. وتزداد تعقيداً وصعوبة ويحمل مع الفتن الأشد وطأة ضرورة أن يتحدث للناس بمواعظ نافذة وأقوم قيلاً.. والفتن كقطع الليل المظلم يحار منها الناس من دعاة العلمانية والليبرالية والفرق الضالة ومن هم على غير دين الإسلام وسموم هؤلاء وهؤلاء يتلقاها الجمهور أمام الفضائيات وسهامهم في الشارع والصحافة.. فماذا يفعل الخطيب؟ وكيف يتصرف الداعية؟
إن مساجدنا في أماكن كثيرة تشهد قلة في العدد إما لكثرة المساجد أو لضعف الخطباء…فهم بين أنواع:
منهم من يرسل الكلام نظماً ويعيش في فضاءات الدروشة ومنهم من يجعلك تحس بأنه في امتحان فيتلعثم ولا يكاد يبين.. ومنهم من يحفظ خطبته عن ظهر قلب فيلقيها بلا قلب إلا ما رحم ربي من صنف فريد يبلغ رسالته بإخلاص ذلك الخلق الذي كان حقيقة فأضحى خيالاً..
إن النبي الأكرم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده يعلن أوصاف من يحملون العلم للناس فيقول - صلى الله عليه وسلم-: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) إن الداعية بذلك يجب أن يكون أريباً متفتحاً، عالماً بأسرار زمانه، مراعياً لمقتضى الحال.. فليس المهم في العلم روايته وسرد ألفاظه أو قص أحداثه وحكى طرفه وملحه.. بل العلم بمعانيه ومخارجه وطرقه ومناهجه "أسرار البلاغة/ محمود شاكر".
وقد كان السلف يقصدون العالم من هؤلاء للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك لأن ثمرة علمه هي هديه وسمته، وكان يجتمع في مجلس أحمد بن حنبل زهاء خمسة آلاف أو يزيدون وأقل من خمسمائة منهم يكتبون الحديث والباقون يتعلمون حسن الأدب، وقال أبو طالب المكي في " قوت القلوب"، وقد كانوا يقصدون الأمصار للقاء العلماء والصالحين للنظر إليهم والتأدب بأدبهم. "رسالة المسترشدين للمحاسبى"
نعم إن مهمة الداعية تزداد صعوبة مع تقدم الدنيا وتفشى الفتن وعليه أن يتمسك بمعالم أساسية تتمشى مع ما توصل إليه العالم من تطور وتقدم مع الحفاظ على ثوابت الدعوة وأصولها، ويجب أن تساعده في ذلك أجهزة بلاده إذا كانت مخلصة لهذا الدين، أو ينبري لذلك المخلصون الذين يجب أن يعاونوا الدعاة بما آتاهم الله من فضله وببذل النفس والنفيس.
إن العالم اليوم في حاجة إلى دعاة صالحين ومصلحين، يقظين ومستيقظين، منذرين ومبشرين، شعارهم بعد الإيمان بالله ورسوله (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)
أما الدعاة الذين شغلتهم دنياهم عن دينهم، وفرقتهم أهواؤهم عن أمتهم، وأدوا دورهم بلا روح، وسكتوا عن المنكرات، وأرضوا الناس بسخط الله فإنهم لهم المسؤولون..